سورة البقرة - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{اسكن} معناه لازم الإقامة، ولفظه لفظ الأمر ومعناه الإذن، و{أنت} تأكيد للضمير الذي في {اسكن}، {وزوجك} عطف عليه والزوج امرأة الرجل وهذا أشهر من زوجة، وقد تقدم، و{الجنة} البستان عليه حظيرة، واختلف في الجنة التي أسكنها آدم، هل هي جنة الخلد أو جنة أعدت لهما؟ وذهب من لم يجعلها جنة الخلد إلى أن من دخل جنة الخلد لا يخرج منها، وهذا لا يمتنع، إلا أن السمع ورد أن من دخلها مثاباً لا يخرج منها، وأما من دخلها ابتداء كآدم فغير مستحيل ولا ورد سمع بأنه لا يخرج منها.
واختلف متى خلقت حواء من ضلع آدم عليه السلام؟ فقال ابن عباس حين أنبأ الملائكة بالأسماء وأسجدوا له ألقيت عليه السنة وخلقت حواء، فاستيقظ وهي إلى جانبه فقال فيما يزعمون: لحمي ودمي، وسكن إليها، فذهبت الملائكة لتجرب علمه، فقالوا له يا آدم ما اسمها؟ قال: حواء. قالوا: ولم؟ قال: لأنها خلقت من شيء حي، ثم قال الله له: {اسكن أنت وزوجك الجنة}.
وقال ابن مسعود وابن عباس أيضاً: لما أسكن آدم الجنة مشى فيها مستوحشاً، فلما نام خلقت حواء من ضلعه القصيرى، ليسكن إليها ويستأنس بها، فلما انتبه رآها، فقال: من أنت؟ قالت: امرأة خلقت من ضلعك لتسكن إلي، وحذفت النون من {كلا} للأمر، والألف الأولى لحركة الكاف حين حذفت الثانية لاجتماع المثلين وهو حذف شاذ، ولفظ هذا الأمر ب {كلا} معناه الإباحة، بقرينة قوله: {حيث شئتما} والضمير في {منها} عائد على {الجنة}.
وقرأ ابن وثاب والنخعي {رغْداً} بسكون الغين، والجمهور على فتحها، والرغد العيش الدارّ الهنيّ الذي لا عناء فيه، ومنه قول امرئ القيس: [الرمل].
بينما المرء تراه ناعماً *** يأمن الأحداث في عيشٍ رَغَدْ
و {رغداً} منصوب على الصفة لمصدر محذوف وقيل: هو نصب على المصدر في موضع الحال، و{حيث} مبنية على الضم، ومن العرب من يبنيها على الفتح، ومن العرب من يعربها حسب موضعها بالرفع والنصب والخفض، كقوله سبحانه: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} [الأعراف: 82، القلم: 44] ومن العرب من يقول حوث، و{شئتما} أصله شيأتما حوّل إلى فعلتما تحركت ياؤه وانفتح ما قبلها جاء شائتما، حذفت الألف الساكنة الممدودة للالتقاء وكسرت الشين لتدل على الياء فجاء شئتما.
قال القاضي أبو محمد: هذا تعليل المبرد، فأما سيبويه فالأصل عنده شيئتما بكسر الياء، نقلت حركة الياء إلى الشين، وحذفت الياء بعد.
وقوله تعالى: {ولا تقربا هذه الشجرة} معناه لا تقرباها، بأكل، لأن الإباحة فيه وقعت.
قال بعض الحذاق: إن الله لم أراد النهي عن أكل الشجرة نهى عنه بلفظ تقتضي الأكل وما يدعو إليه وهو القرب.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وهذا مثال بين في سد الذرائع.
وقرأ ابن محيصن هذي على الأصل، والهاء في هذه بدل من الياء، وليس في الكلام هاء تأنيث مكسور ما قبلها غير هذه، وتحتمل هذه الإشارة أن تكون إلى شجرة معينة واحدة، أو إلى جنس.
وحكى هارون الأعور عن بعض العلماء قراءة {الشِّجرة} بكسر الشين و{الشجر} كل ما قام من النبات على ساق.
واختلف في هذه {الشجرة} التي نهى عنها ما هي؟
فقال ابن مسعود وابن عباس: هي الكَرْم ولذلك حرمت علينا الخمر.
وقال ابن جريج عن بعض الصحابة: هي شجرة التين.
وقال ابن عباس أيضاً وأبو مالك وعطية وقتادة: هي السنبلة وحبها ككلى البقر، أحلى من العسل، وألين من الزبد.
وروي عن ابن عباس أيضاً: أنها شجرة العلم، فيها ثمر كل شيء.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لا يصح عن ابن عباس.
وحكى الطبري عن يعقوب بن عتبة: أنها الشجرة التي كانت الملائكة تحنك بها للخلد.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أيضاً ضعيف.
قال: واليهود تزعم أنها الحنظلة، وتقول: إنها كانت حلوة ومُرَّت من حينئذ.
قال القاضي أبو محمد وليس في شيء من هذا التعيين ما يعضده خبر، وإنما الصواب أن يعتقد أن الله تعالى نهى آدم عن شجرة فخالف هو إليها وعصى في الأكل منها، وفي حظره تعالى على آدم الشجرة ما يدل على أن سكناه في الجنة لا يدوم، لأن المخلد لا يحظر عليه شيء، ولا يؤمر ولا ينهى.
وقيل إن هذه الشجرة كانت خصت بأن تحوج آكلها إلى التبرز، فلذلك نهي عنها فلما أكل منها ولم تكن الجنة موضع تبرز أهبط إلى الأرض.
وقوله {فتكونا} في موضع جزم على العطف على {لا تقربا}، ويجوز فيه النصب على الجواب، والناصب عند الخليل وسيبويه أن المضمرة، وعند الجرمي الفاء، والظالم في اللغة الذي يضع الشيء غير موضعه، ومنه قولهم: من أشبه أباه فما ظلم ومنه المظلومة الجلد لأن المطر لم يأتها في وقته، ومنه قول عمرو بن قمئة: [الكامل]
ظلم البطاح بها انهلالُ حريصةٍ *** فصفا النطافُ له بعيدَ المقلعِ
والظلم في أحكام الشرع على مراتب، أعلاها الشرك، ثم ظلم المعاصي وهي مراتب، وهو في هذه الآية يدل على أن قوله: {ولا تقربا} على جهة الوجوب، لا على الندب، لأن من ترك المندوب لا يسمى ظالماً، فاقتضت لفظة الظلم قوة النهي، و{أزلهما} مأخوذ من الزلل، وهو في الآية مجاز، لأنه في الرأي والنظر، وإنما حقيقة الزلل في القدم.
قال أبو علي: {فأزلهما} يحتمل تأويلين، أحدهما، كسبهما الزلة، والآخر أن يكون من زل إذا عثر.
وقرأ حمزة: {فأزالهما}، مأخوذ من الزوال، كأنه المزيل لما كان إغواؤه مؤدياً إلى الزوال. وهي قراءة الحسن وأبي رجاء، ولا خلاف بين العلماء أن إبليس اللعين هو متولي إغواء آدم. واختلف في الكيفية، فقال ابن عباس وابن مسعود وجمهور العلماء: أغواهما مشافهة، ودليل ذلك قوله تعالى: {وقاسمهما} والمقاسمة ظاهرها المشافهة.
وقال بعضهم: إن إبليس لما دخل إلى آدم كلمه في حاله، فقال: يا آدم ما أحسن هذا لو أن خلداً كان، فوجد إبليس السبيل إلى إغوائه، فقال: هل أدلك على شجرة الخلد؟.
وقال بعضهم: دخل الجنة في فم الحية وهي ذات أربع كالبختية، بعد أن عرض نفسه على كثير من الحيوان فلم تدخله إلا الحية، فخرج إلى حواء وأخذ شيئاً من الشجرة، وقال: انظري ما أحسن هذا فأغواها حتى أكلت، ثم أغوى آدم، وقالت له حواء: كل فإني قد أكلت فلم يضرني فأكل فبدت لهما سوءاتهما، وحصلا في حكم الذنب، ولعنت الحية وردت قوائمها في جوفها، وجعلت العداوة بينها وبين بني آدم، وقيل لحواء: كما أدميت الشجرة فكذلك يصيبك الدم في كل شهر، وكذلك تحملين كرهاً، وتضعين كرهاً، تشرفين به على الموت مراراً. زاد الطبري والنقاش: وتكونين سفيهة، وقد كنت حليمة.
وقالت طائفة: إن إبليس لم يدخل الجنة إلى آدم بعد أن أخرج منها، وإنما أغوى آدم بشيطانه وسلطانه ووساوسه التي أعطاه الله تعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم». والضمير في {عنها} عائد على {الشجرة} في قراءة من قرأ {أزلهما}، ويحتمل أن يعود على {الجنة} فأما من قرأ {أزالهما} فإنه يعود على {الجنة} فقط، وهنا محذوف يدل عليه الظاهر، تقديره فأكلا من الشجرة.
وقال قوم: أكلا من غير التي أشير إليها فلم يتأولا النهي واقعاً على جميع جنسها.
وقال آخرون: تأولا النهي على الندب.
وقال ابن المسيب: إنما أكل آدم بعد أن سقته حواء الخمر فكان في غير عقله.
وقوله تعالى: {فأخرجهما مما كانا فيه} يحتمل وجوهاً، فقيل أخرجهما من الطاعة إلى المعصية. وقيل: من نعمة الجنة إلى شقاء الدنيا. وقيل: من رفعة المنزلة إلى سفل مكانة الذنب.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله يتقارب.
وقرأ أبو حيوة: {اهبُطوا}بضم الباء.
ويفعُل كثير في غير المتعدي وهبط غير متعدٍّ. والهبوط النزول من علو إلى أسفل.
واختلف من المخاطب بالهبوط، فقال السدي وغيره: آدم وحواء وإبليس والحية.
وقال الحسن: آدم وحواء والوسوسة.
قال غيره: والحية لأن إبليس قد كان أهبط قبل عند معصيته.
و {بعضكم لبعض عدو} جملة في موضع الحال، وإفراد لفظ {عدو} من حيث لفظ {بعض}، وبعض وكل تجري مجرى الواحد، ومن حيث لفظة {عدو} تقع للواحد، والجمع، قال الله تعالى: {هم العدو فاحذرهم} [المنافقون: 4] {ولكم في الأرض مستقر} أي موضع استقرار قاله أبو العالية وابن زيد.
وقال السدي: المراد الاستقرار في القبور، والمتاع ما يستمتع به من أكل ولبس وحياة، وحديث، وأنس، وغير ذلك. وأنشد سليمان بن عبد الملك حين وقف على قبر ابنه أيوب إثر دفنه: [الطويل]
وقفتُ على قبرٍ غريب بقفرة *** متاع قليل من حبيب مفارق
واختلف المتأولون في الحين هاهنا فقالت فرقة: إلى الموت، وهذا قول من يقول المستقر هو المقام في الدنيا، وقالت فرقة: {إلى حين} إلى يوم القيامة، وهذا قول من يقول: المستقر هو في القبور. ويترتب أيضاً على أن المستقر في الدنيا أن يراد بقوله: {ولكم}، أي لأنواعكم في الدنيا استقرار ومتاع قرناً بعد قرن إلى يوم القيامة، والحين المدة الطويلة من الدهر، أقصرها في الأيمان والالتزامات سنة.
قال الله تعالى: {تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها} [إبراهيم: 25] وقد قيل: أقصرها ستة أشهر، لأن من النخل ما يثمر في كل ستة أشهر، وقد يستعمل الحين في المحاورات في القليل من الزمن.
وفي قوله تعالى: {إلى حين} فائدة لآدم عليه السلام، ليعلم أنه غير باق فيها ومنتقل إلى الجنة التي وعد بالرجوع إليها، وهي لغير آدم دالة على المعاد.
وروي أن آدم نزل على جبل من جبال سرنديب وأن حواء نزلت بجدة، وأن الحية نزلت بأصبهان، وقيل بميسان، وأن إبليس نزل على الأبلة.


المعنى: فقال الكلمات فتاب الله عليه عند ذلك، و{آدمُ} رفع ب {تلقى}، و{كلمات} نصب بها، والتلقي من آدم هو الإقبال عليها والقبول لها والفهم.
وحكى مكي قولاً: أنه أُلهِمَهاها فانتفع بها.
وقرأ ابن كثير: {آدمَ} بالنصب. {من ربه كلماتٌ} بالرفع، فالتلقي من الكلمات هو نيل آدم بسببها رحمة الله وتوبته.
واختلف المتأولون في الكلمات، فقال الحسن بن أبي الحسن: هي قوله تعالى: {ربنا ظلمنا أنفسنا} الآية [الأعراف: 23]. وقال مجاهد: هي أن آدم قال: سبحانك اللهم لا إله أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت التواب الرحيم.
وقال ابن عباس: هي أن آدم قال: أي رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال بلى، أي رب ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى. قال: أرأيت إن تبت وأطعت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم.
قال عبيد بن عمير: إن آدم قال: أي رب أرأيت ما عصيتك فيه أشيء كتبته على أم شيء ابتدعته؟ قال: بل شيء كتبته عليك. قال: أي رب كما كتبته علي فاغفر لي.
وقال قتادة: الكلمات هي أن آدم قال: أي رب أرأيت إن أنا تبت وأصلحت؟ قال: إذاً أدخلك الجنة.
وقالت طائفة: إن المراد بالكلمات ندمه واستغفاره وحزنه، رسول الله فتشفع بذلك، فهي الكلمات.
وقالت طائفة: إن المراد بالكلمات ندمه واستغفاره وحزنه، وسماها كلمات مجازاً لما هي في خلقها صادرة عن كلمات، وهي كن في كل واحدة منهن، وهذا قول يقتضي أن آدم لم يقل شيئاً إلا الاستغفار المعهود.
وسئل بعض سلف المسلمين عما ينبغي أن يقوله المذنب، يقول ما قال أبواه، {ربنا ظلمنا أنفسنا}. وما قال موسى: {رب إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي} [القصص: 16]. وما قال يونس: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} [الأنبياء: 87].
و {تاب عليه} معناه رجع به، والتوبة من الله تعالى الرجوع على عبده بالرحمة والتوفيق، والتوبة من العبد الرجوع عن المعصية والندم على الذنب مع تركه فيما يستأنف وإنما خص الله تعالى آدم بالذكر هنا في التلقي والتوبة، وحواء مشاركة له في ذلك بإجماع لأنه المخاطب في أول القصة بقوله: {اسكن أنت وزوجك الجنة} فلذلك كملت القصة بذكره وحده، وأيضاً فلأن المرأة حرمة ومستورة فأراد الله الستر لها، ولذلك لم يذكرها في المعصية في قوله: {وعصى آدم ربه فغوى} [طه: 121].
وروي أن الله تعالى تاب على آدم في يوم عاشوراء وكنية آدم أبو محمد، وقيل أبو البشر.
وقرأ الجمهور: إنه بكسر الألف على القطع.
وقرأ ابن أبي عقرب: أنه بفتح الهمزة على معنى لأنه، وبنية {التواب} للمبالغة والتكثير، وفي قوله تعالى: {إنه هو التواب الرحيم} تأكيد فائدته أن التوبة على العبد إنما هي نعمة من الله، لا من العبد وحده لئلا يعجب التائب، بل الواجب عليه شكر الله تعالى في توبته عليه، وكرر الأمر بالهبوط لما علق بكل أمر منهما حكماً غير حكم الآخر، فعلق بالأول العداوة، وعلق بالثاني إتيان الهدى. وقيل: كرر الأمر بالهبوط على جهة تغليظ الأمر وتأكيده، كما تقول لرجل قم قم.
وحكى النقاش: أن الهبوط الثاني إنما هو من الجنة إلى السماء، والأول في ترتيب الآية إنما هو إلى الأرض، وهو الآخر في الوقوع، فليس في الأمر تكرار على هذا، و{جميعاً} حال من الضمير في {اهبطوا}، وليس بمصدر ولا اسم فاعل، ولكنه عوض منهما دال عليهما، كأنه قال هبوطاً جميعاً، أو هابطين جميعاً، واختلف في المقصود بهذا الخطاب، فقيل آدم وحواء وإبليس وذريتهم، وقيل ظاهره العموم ومعناه الخصوص في آدم وحواء، لأن إبليس لا يأتيه هدى، وخوطبا بلفظ تشريفاً لهما، والأول أصح لأن إبليس مخاطب بالإيمان بإجماع، وإنْ في قوله {فإمّا} هي للشرط دخلت ما عليها مؤكدة ليصح دخول النون المشددة، فهي بمثابة لام القسم التي تجيء لتجيء النون، وفي قوله تعالى: {مني} إشارة إلى أن أفعال العباد خلق لله تعالى. واختلف في معنى قوله {هدى}، فقيل: بيان وإرشاد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والصواب أن يقال: بيان ودعاء.
وقالت فرقة: الهدى الرسل، وهي إلى آدم من الملائكة وإلى بنيه من البشر: هو فمن بعده.
وقوله تعالى: {فمن تبع هداي} شرط جوابه فلا خوف عليهم.
قال سيبويه، الشرط الثاني وجوابه هما جواب الأول في قوله: {فإما يأتينكم}.
وحكي عن الكسائي أن قوله: {فلا خوف عليهم} جواب الشرطين جميعاً.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: حكي هذا وفيه نظر، ولا يتوجه أن يخالف سيبويه هنا، وإنما الخلاف في نحو قوله تعالى: {فأما إن كان من المقربين فروح وريحان} [الواقعة: 89]. فيقول سيبويه: جواب أحد الشرطين محذوف لدلالة قوله: {فروح} عليه ويقول الكوفيون: فروح جواب الشرطين.
قال القاضي أبو محمد: وأما في هذه الآية فالمعنى يمنع أن يكون {فلا خوف} جَواباً للشرطين.
وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق: {هدى} وهي لغة هذيل.
قال أبو ذؤيب يرثي بنيه: [الكامل].
سبقوا هويَّ وأعنقوا لهواهُم *** فتخرموا، ولكل جنبٍ مصرع
وكذلك يقولون عصى وما أشبهه، وعلة هذه اللغة أن ياء الإضافة من شأنها أن يكسر ما قبلها، فلما لم يصح في هذا الوزن كسر الألف الساكنة أبدلت ياء وأدغمت.
وقرأ الزهري ويعقوب وعيسى الثقفي: {فلا خوفَ عليهم} نصب بالتبرية ووجهه أنه أعم وأبلغ في رفع الخوف، ووجه الرفع أنه أعدل في اللفظ لينعطف المرفوع من قولهم {يحزنون} على مرفوع، {ولا} في قراءة الرفع عاملة عمل ليس.
وقرأ ابن محيصن باختلاف عنه {فلا خوفُ} بالرفع وترك التنوين وهي على أن تعمل {لا} عمل ليس، لكنه حذف التنوين تخفيفاً لكثرة الاستعمال، ويحتمل قوله تعالى: {لا خوف عليهم} أي فيما بين أيديهم من الدنيا، {ولا هم يحزنون} على ما فاتهم منها، ويحتمل أن {لا خوف عليهم} يوم القيامة، {ولا هم يحزنون} فيه، ويحتمل أن يريد أنه يدخلهم الجنة حيث لا خوف ولا حزن.
وقوله تعالى: {والذين كفروا} الآية، عطف جملة مرفوعة على جملة مرفوعة، وقال {وكذبوا} وكان في الكفر كفاية لأن لفظة كفرا يشترك فيها كفر النعم وكفر المعاصي، ولا يجب بهذا خلود فبين أن الكفر هنا هو الشرك، بقوله {وكذبوا بآياتنا} والآية هنا يحتمل أن يريد المتلوة، ويحتمل أن يريد العلامة المنصوبة، وقد تقدم في صدر هذا الكتاب القول على لفظ آية، و{أولئك} رفع بالابتداء و{أصحاب} خبره، والصحبة الاقتران بالشيء في حالة ما، في زمن ما، فإن كانت الملازمة والخلطة فهو كمال الصحبة، وهكذا هي صحبة أهل النار لها، وبهذا القول ينفك الخلاف في تسمية الصحابة رضي الله عنهم إذ مراتبهم متباينة، أقلها الاقتران في الإسلام والزمن، وأكثرها الخلطة والملازمة، و{هم فيها خالدون}، ابتداء وخبر في موضع الحال.


{يا} حرف نداء مضمن معنى التنبيه.
قال الخليل: والعامل في المنادي فعل مضمر كأنه يقول: أريد أو أدعو.
وقال أبو علي الفارسي: العامل حرف النداء عصب به معنى الفعل المضمر فقوي فعمل، ويدل على ذلك أنه ليس في حروف المعاني ما يلتئم بانفراده مع الأسماء غير حرف النداء، و{بني} منادى مضاف و{إسرائيل} هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وهو اسم أعجمي يقال فيه أسراءل وإسرائيل وإسرائل، وتميم تقول إسرائين، وإسرا هو بالعبرانية عبد وإيل اسم الله تعالى فمعناه عبد الله.
وحكى المهدوي أن-إسرا- مأخوذ من الشدة في الأسر كأنه الذي شد الله أسره وقوى خلقته.
وروي عن نافع والحسن والزهري وابن أبي إسحاق ترك همز إسراييل، والذكر في كلام العرب على أنحاء، وهذا منها ذكر القلب الذي هو ضد النسيان، والنعمة هنا اسم الجنس فهي مفردة بمعنى الجمع، وتحركت الياء من {نعمتي} لأنها لقيت الألف واللام، ويجوز تسكينها، وإذا سكنت حذفت للالتقاء وفتحها أحسن لزيادة حرف في كتاب الله تعالى، وخصص بعض العلماء النعمة في هذه الآية.
فقال الطبري: بعثة الله الرسل منهم وإنزال المن والسلوى، وإنقاذهم من تعذيب آل فرعون، وتفجير الحجر.
وقال غيره: النعمة هنا أن دركهم مدة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال أخرون: هي أن منحهم علم التوراة وجعلهم أهله وحملته.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذه أقوال على جهة المثال، والعموم في اللفظة هو الحسن.
وحكى مكي: أن المخاطب من بني إسرائيل بهذا الخطاب هم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، لأن الكافر لا نعمة لله عليه.
وقال ابن عباس وجمهور العلماء: بل الخطاب لجميع بني إسرائيل في مدة النبي عليه السلام، مؤمنهم وكافرهم، والضمير في {عليكم} يراد به على آبائكم كما تقول العرب ألم نهزمكم يوم كذا لوقعه كانت بين الآباء والأجداد، ومن قال إنما خوطب المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم استقام الضمير في {عليكم} ويجيء كل ما توالى من الأوامر على جهة الاستدامة.
وقوله تعالى: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} أمر وجوابه.
فقال الخليل: جزم الجواب في الأمر من معنى الشرط، والوفاء بالعهد هو التزام ما تضمن من فعل.
وقرأ الزهري: {أوَفّ} بفتح الواو وشد الفاء للتكثير.
واختلف المتأولون في هذا العهد إليهم فقال الجمهور ذلك عام في جميع أوامره ونواهيه ووصاياه فيدخل في ذلك ذكر محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة، وقيل العهد قوله تعالى: {خذوا ما آتيناكم بقوة} [البقرة: 63، 93]، وقال ابن جريج: العهد قوله تعالى:
{ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل} [المائدة: 12]، وعهدهم هو أن يدخلهم الجنة، ووفاؤهم بعهد الله أمارة لوفاء الله تعالى لهم بعهدهم، لا علة له، لأن العلة لا تتقدم المعلول.
وقوله تعالى: {وإياي فارهبون} الاسم إيا والياء ضمير ككاف المخاطب، وقيل {إياي} يجملته هو الاسم، وهو منصوب بإضمار فعل مؤخر، تقديره: وإياي ارهبوا فارهبون، وامتنع أن يتقدر مقدماً لأن الفعل إذا تقدم لم يحسن أن يتصل به إلا ضمير خفيف، فكان يجيء وارهبون، والرهبة يتضمن الأمر بها معنى التهديد وسقطت الياء بعد النون لأنها رأس آية.
وقرأ بان أبي إسحاق بالياء، {وآمنوا} معناه صدقوا، و{مصدقاً} نصب على الحال من الضمير في {أنزلت}، وقيل ما والعامل فيه {آمنوا} وما أنزلت كناية عن القرآن، و{لما معكم} يعني من التوراة وقوله تعالى: {ولا تكونوا أول كافر به} هذا من مفهوم الخطاب الذي: المذكور فيه والمسكوت عنه حكمهما واحد، فالأول والثاني وغيرهما داخل في النهي، ولكن حذروا البدار إلى الكفر به إذ على الأول كفل من فعل المقتدى به، ونصب أول على خبر كان.
قال سيبويه: {أول} أفعل لا فعل له لاعتلال فائه وعينه قال غير سيبويه: هو أوأل من وأل إذا نجا، خففت الهمزة وأبدلت واواً وأدغمت.
وقيل: إنه من آل فهو أأول قلب فجاء وزنه أعفل، وسهل وأبدل وأدغم، ووحد كافر وهو بنية الجمع لأن أفعل إذا أضيف إلى اسم متصرف من فعل جاز إفراد ذلك الاسم، والمراد به الجماعة.
قال الشاعر: [الكامل]
وإذا همُ طعموا فألأمُ طاعمٍ *** وإذا همُ جاعوا فشرُّ جياع
وسيبويه يرى أنها نكرة مختصرة من معرفة كأنه قال ولا تكونوا أول كافرين به وقيل معناه: ولا تكونوا أول فريق كافر به.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: وقد كان كفر قبلهم كفار قريش، فإنما معناه من أهل الكتاب، إذ هم منظور إليهم في مثل هذا، لأنهم حجة مظنون بهم علم، واختلف في الضمير في {به} على من يعود، فقيل على محمد عليه السلام، وقيل على التوراة إذ تضمنها قوله: {لما معكم}.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وعلى هذا القول يجيء {أول كافر به} مستقيماً على ظاهرة في الأولية، وقيل الضمير في {به} عائد على القرآن، إذ تضمنه قوله {بما أنزلت}.
واختلف المتأولون في الثمن الذي نهوا أن يشتروه بالآيات. فقالت طائفة: إن الأحبار كانوا يعلمون دينهم بالأجرة، فنهوا عن ذلك وفي كتبهم: علم مجاناً كما علمت مجاناً أي باطلاً بغير أجرة.
وقال قوم: كانت للأحبار مأكلة يأكلونها على العلم كالراتب فنهوا عن ذلك.
وقال قوم: إن الأحبار أخذوا رشى على تغيير قصة محمد عليه السلام في التوراة، ففي ذلك قال تعالى: {ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً} [البقرة: 41، المائدة: 44].
وقال قوم: معنى الآية ولا تشتروا بأوامري ونواهيَّ وآياتي ثمناً قليلاً، يعني الدنيا ومدتها والعيش الذي هو نزر لا خطر له، وقد تقدم نظير قوله {وإياي فاتقون} وبين {اتقون} و{ارهبون} فرق، ان الرهبة مقرون بها وعيد بالغ.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10